خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 21 من رجب 1445هـ الموافق 2 /2 / 2024م
) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً(
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ الْأَمْنَ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَحَاجَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ أَصْلِيَّةٌ، وَعَامِلٌ مِنْ عَوَامِلِ التَّنْمِيَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَغَايَةٌ نَبِيلَةٌ يَسْعَى إِلَيْهَا النَّاسُ أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعَاتٍ، وَدُوَلًا وَمُؤَسَّسَاتٍ؛ إِذْ لَا يَطِيبُ لِلْمَرْءِ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَلَا يَهْنَأُ بِمَسْكَنٍ وَلَا مَالٍ وَلَا ذَهَابٍ وَإِيَابٍ، وَلَا يَقِرُّ لِلشُّعُوبِ وَالدُّوَلِ قَرَارٌ، وَلَا يَقُومُ لَهَا تَطَوُّرٌ وَازْدِهَارٌ؛ مَا لَمْ يَكُنْ أَمْنٌ وَأَمَانٌ وَتَوْحِيدٌ وَإِيمَانٌ ؛ فِي النُّفُوسِ وَالدِّيَارِ . وَإِنَّ أَمْنَ الْإِنْسَانِ عَلَى دِينِهِ وَمَالِهِ، وَعَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ: مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَمِنْ سَوَابِـغِ الْآلَاءِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ: فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ]. وَبِخَاصَّةٍ إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْنَ ذُو أَشْكَالٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَلَهُ أَلْوَانٌ وَوُجُوهٌ مُتَفَرِّعَةٌ، فَمِنْهُ الْأَمْنُ الْغِذَائِيُّ وَالْأَمْنُ الصِّحِّيُّ وَالدَّوَائِيُّ، وَالْأَمْنُ الدِّينِيُّ وَالنَّفْسِيُّ وَالِاقْتِصَادِيُّ، وَالْأَمْنُ الِاجْتِمَاعِيُّ وَالْبِيئِيُّ وَالصِّنَاعِيُّ، وَالْأَمْنُ الْمَعْلُومَاتِيُّ وَالْفِكْرِيُّ وَالثَّقَافِيُّ، وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْأَمْنِ دَاخِلَةٌ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الْآنِفِ ذِكْرُهُ. فَالسَّعْيُ لِتَحْقِيقِ الْأَمْنِ - إِذَا - فَرِيضَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَضَرُورَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ.
وَلَقَدْ حَرَصَ الشَّرْعُ عَلَى الْأَمْنِ الْفَرْدِيِّ وَالْجَمَاعِيِّ، فَأَمَرَ بِكُلِّ مَا يُقَوِّيهِ وَيُدِيمُهُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مَا يُقَوِّضُهُ وَيُضَعْضِعُهُ فِي الْآحَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَاعْتَبَرَ الْأَمْنَ فِي الْأَوْطَانِ، وَالْمُعَافَاةَ فِي الْأَبْدَانِ : مِنْ أَجْلَى الْأَسْبَابِ فِي تَفَرُّغِ الْإِنْسَانِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ الرَّحْمَنِ ؛ وَلِهَذَا امْتَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قُرَيْشٍ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَرَبَطَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عِبَادَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ: ]فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[ [قريش:3-4]، فَرَغَدُ الْعَيْشِ وَوَفْرَةُ الْأَرْزَاقِ مِنْ كُبْرَيَاتِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الْحَمْدَ وَالِامْتِنَانَ، وَتَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ وَالْعِرْفَانَ . وَكَذَلِكَ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ سَبَأٍ بِرَغَدِ الْعَيْشِ وَالرِّزْقِ الْوَفِيرِ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْنِ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بِلَا تَعْكِيرٍ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الِامْتِنَانِ: ]لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ[ [سبأ:15]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْأَمَانِ: ]وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ[ [سبأ:18].
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ تَحْقِيقَ الْأَمْنِ وَتَوَافُرَ الْأَمَانِ لَا يَأْتِيَانِ مِنْ فَرَاغٍ وَلَا يُولَدَانِ مِنْ عَدَمٍ، وَإِنَّمَا يَقُومَانِ عَلَى أُسُسٍ رَاسِخَةٍ عَمِيقَةٍ، وَيَنْبُعَانِ مِنْ أُصُولٍ ضَارِبَةٍ وَثِيقَةٍ، أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ : الْإِيمَانُ بِاللَّهِ إِيمَانًا صَادِقًا، وَتَوْحِيدُهُ تَوْحِيدًا خَالِصًا؛ إِذْ لَا أَمْنَ وَلَا أَمَانَ بِلَا إِيمَانٍ؛ قَالَ تَعَالَى: ]الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[ [الأنعام: 82]، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ إِيمَانًا كَامِلًا، وَأَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ إِسْلَامًا تَامًّا، وَلَمْ يَخْلِطْ إِيمَانُهُ بِشِرْكٍ : تَعَهَّدَ اللَّهُ لَهُ بِالْأَمْنِ وَالْهِدَايَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: (وَالْعَبْدُ إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ فَشَهِدَ أَنْ لَّا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ... حَلَّاهُ اللَّهُ بِالْأَمْنِ وَالسُّرُورِ وَالْحُبُورِ وَالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ... وَكُلَّمَا قَوِيَ التَّوْحِيدُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ قَوِيَ إيمَانُهُ وَطُمَأْنِينَتُهُ وَتَوَكُّلُهُ وَيَقِينُهُ).
وَمِنْهَا: الْمُحَافَظَةُ عَلَى النِّعْمَةِ مِنَ الزَّوَالِ، وَذَلِكَ بِدَوَامِ شُكْرِهَا وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْعِمِ صَاحِبِ الْأَفْضَالِ، وَإِلَّا سُلِبَتِ النِّعْمَةُ وَحَلَّتِ النِّقْمَةُ؛ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ]وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[ [النحل:112].
وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ : الِالْتِزَامُ بِالْأَخْلَاقِ الْفَضِيلَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالِابْتِعَادُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ الْبِدْعِيَّةِ؛ فَإِذَا حَفِظَ كُلُّ فَرْدٍ يَدَهُ عَنِ الْبَطْشِ وَلِسَانَهُ عَنِ الْفُحْشِ، وَرَجْلَهُ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْفَحْشَاءِ، وَسَائِرَ جَوَارِحِهِ عَنِ الظُّلْمِ وَالِاعْتِدَاءِ: عَاشَ النَّاسُ بِخَيْرٍ وَأَمَانٍ وَرَاحَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ، فَلَا غِشَّ وَلَا احْتِيَالَ، وَلَا رَشْوَةَ وَلَا احْتِكَارَ، وَلَا أَذِيَّةَ وَلَا أَنَانِيَّةَ؛ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
وَمِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ: تَطْبِيقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الزَّاجِرَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَهَا لِحِفْظِ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالنَّسْلِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ، فَفِي إِقَامَتِهَا أَمْنُ الْمُجْتَمَعِ وَأَمَانُهُ؛ لِأَنَّهَا تَرْدَعُ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ، وَتَمْنَعُ الشُّرُورَ الْمُسْتَطِيرَةَ، وَبِتَنْفِيذِهَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ وَيَسُودُ الْعَدْلُ، وَتَتَلَاشَى الْفَوْضَى وَيَزُولُ الظُّلْمُ وَيَضْمَحِلُّ؛ قَالَ تَعَالَى: ]وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ [البقرة:179].
وَمِنْهَا أَيْضًا: الِالْتِفَافُ حَوْلَ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَعَدَمُ الِافْتِيَاتِ عَلَيْهِمْ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ]. وَالتَّوَسُّطُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَالِاعْتِدَالُ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْغُلُوِّ وَنَبْذُ الْعُنْفِ وَالِاقْتِتَالِ، وَتَعْظِيمُ حُرْمَةِ دِمَاءِ وَأَعْرَاضِ وَأَمْوَالِ الْمَعْصُومِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ وَالْمُعَاهِدِينَ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «.. وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ شَاكِرٍ].
جَعَلَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِ قُرْبِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَعَصَمَنَا مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ، وَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَيَّأَ لِعِبَادِهِ سُبُلَ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ جَعَلَ الْأَمْنَ فِي الْإِيمَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الْمَبْعُوثُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجَانِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مَا تَعَاقَبَ الْجَدِيدَانِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ كَمَا أَمَرَكُمْ؛ يَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا وَعَدَكُمْ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ فِي الدِّيَارِ وَالْبُلْدَانِ: عِبَادَةُ اللَّهِ عِبَادَةً لَا شِرْكَ فِيهَا وَلَا طُغْيَانَ، فَلَقَدْ عَلَّقَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمْكِينَ، وَالْأَمْنَ وَنُصْرَةَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: بِالْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ؛ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ [النور:55].
مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ:
إِذَا كَانَ الْأَمْنُ نِعْمَةً إِلَهِيَّةً وَمِنْحَةً رَبَّانِيَّةً؛ فَلْنُحَافِظْ عَلَيْهَا وَلْنَأْخُذْ بِالْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَا، وَلْنَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنَ الْعَبَثِ بِهَا؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْهَلَاكَ وَالْخَطَرَ، فَفِي ضَيَاعِ الْأَمْنِ وَفِقْدَانِ الْأَمَانِ : سَفْكُ الدِّمَاءِ الْبَرِيئَةِ، وَانْتِهَاكُ الْأَعْرَاضِ النَّزِيهَةِ، وَذَهَابُ الْأَمْوَالِ وَتَشَرُّدُ الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ، وَسِيَادَةُ الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ، وَتَقَطُّعُ السُّبُلِ وَانْقِطَاعُ الِاكْتِسَابِ، فَلَا أَمَانَ عَلَى دِينٍ وَلَا دُنْيَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُحَافِظُ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ، وَيَقِفُ سَدًّا مَنِيعًا فِي وَجْهِ مَنْ يُرِيدُ الشَّرَّ لِدِينِنَا وَوَطَنِنَا وَأُمَّتِنَا: وَحْدَةَ الصَّفِّ وَاجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ، وَتَآلُفَ الْقُلُوبِ وَصَفَاءَهَا، وَتَكَاتُفَ النُّفُوسِ وَنَقَاءَهَا، فَإِنَّ أَيَّ مُجْتَمَعٍ لَا يَتَقَوَّى بَعْدَ الإِيمَانِ بِمِثْلِ الْوَحْدَةِ وَالتَّآلُفِ، وَلَا يَهْنَأُ عَيْشُهُ بِمِثْلِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّسَامُحِ وَالتَّكَاتُفِ، وَلَا يَقْوَى عَلَى التَّقَدُّمِ وَالتَّطَوُّرِ وَالِازْدِهَارِ؛ إِلَّا بِالتَّوَحُّدِ وَالتَّعَاوُّنِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَإِرْسَاءِ قَوَاعِدِ الْعَيْشِ الْمُشْتَرَكِ وَالِائْتِلَافِ، وَنَبْذِ التَّفُرُّقِ وَالتَّجَافِي عَنْ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، ]إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[ [الأنبياء:92]، فَالْنَعِشِ الْوَحْدَةَ الَّتِي لَا تَعْرِفُ التَّفَرُّقَ، وَالتَّلَاحُمَ الَّذِي لَا يُفْسِدُهُ التَّمَزُّقُ، أَلَا وَإِنَّ أَمْنَ الْأُمَّةِ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا، وَنَحْنُ مَسْؤُولُونَ عَنْهُ أَمَامَ اللهِ: أَحَفِظْنَا أَمْ ضَيَّعْنَا؟ فَعَلَيْنَا أَنْ نَعْمَلَ بِجِدٍّ وَمُصَابَرَةٍ، وَإِخْلَاصٍ وَمُثَابَرَةٍ؛ لِنَعِيشَ فِي وَاحَةِ التَّوْحِيدِ وَالْتَّسَامُحِ وَالْإِيمَانِ، وَفِي دَوْحَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْحُنَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ، أُولِي الْفَضْلِ الْجَلِيِّ، وَالْقَدْرِ الْعَلِيِّ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَالْآلِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْقَرَابَةِ. اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسَلَّمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَ الْبِلَادِ، وَاجْعَلْ أَعْمَالَهُ صَالِحَةً فِي رِضَاكَ، وَارْفَعْ بِهِ رَايَةَ الْحَقِّ وَالدِّينِ، وَارْزُقْهُ الْبِطَانَةَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَأَنْفَعْ بِهِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ بِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدِ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة